سورة الروم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


قلت: {الله}: مبتدأ، و{الذي خلقكم} خبر.
يقول الحق جل جلاله: {الله الذي خلقكم}؛ أظهركم {ثم رزقكم} ما تقوم به أبدانكم، {ثم يُميتكم} عند انقضاء آجالكم، {ثم يُحييكم}؛ عند بعثكم؛ ليجازيكم على فعلكم، أي: هو المختص بالخلق والرزق، والإماتة، والإحياء. {هل من شركائكم}؛ أصنامكم {من يفعل من ذلكم من شيء} أي: الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، {هل من شركائكم}؛ أصنامكم {من يفعل من ذلكم من شيء} أي: الخلق وارزق والإماتة والإحياء {من شيء} أي: شيئاً من تلك الأفعال؟ فلم يجيبوا، عجزاً، فقال استبعاداً وتنزيهاً: {سبحانه وتعالى عما يشركون}. و {من}؛ الأولى، والثانية، والثالثة: زوائد؛ لتأكيد عجز شركائهم، وتجهيل عَبَدَتِهِمْ.
الإشارة: ذكر الحق تعالى أربعة أشياء متناسقة أنه هو فاعلها، فأقر الناس بثلاثة، وشكُّوا في الرزق، وقالوا: لا يكون إلا بالسبب، والسبب إنما هو ستر لسر الربوبية. فإذا تحقق وجوده في حق العامة ارتفع حق الخاصة، فيرزقهم بلا سبب، لقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3].
قال القشيري: حين قذفك في بَطْنِ أُمّك قد كنت غنياً عن الأكل والشراب بقدرته أو مفتقراً إليه، فأجرى رزقه عليك مع الطمث، على ما قالوا، وإذا أخرجك من بطن أمك رزقك على الوجه المعهود في الوقت المعلوم، فيسر لك أسباب الشُرْب والأكل من لبن الأم، ثم من فنون الطعام، ثم أرزاق القلوب والسرائر، من الإيمان والعرفان، وأرزاق التوفيق؛ من الطاعات والعبادات، وأرزاق اللسان؛ من الأذكار، وغير ذلك مما جرى ذكره. {ثم يُميتكم} بسقوط شهواتكم، ويُميتكم عن شواهدكم، {ثم يحييكم} بحياة قلوبكم، ثم بأن يحييكم بربكم. ويقال: من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق، ومنها ما شهود الرزاق، ويقال: لا مُكْنَةَ لك في تبديل خلقك، فكذلك لا قدرة لك على تغيير رزقك. فالمُوَسَّع عليه: رزقه بفضل ربه، لا بمناقب نفسه. والمُقَتّر عليه رزقُه بحُكم ربه لا بمعايب نفسه. اهـ. وبعضه بالمعنى.


يقول الحق جل جلاله: {ظهر الفسادُ في البر والبحر}، أما الفساد في البر، فكالقحط، وقلة الأمطار، وعدم الريع في الزراعات والربح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدوابّ، ومحق البركات من كل شيء. وأما في البحر؛ فبكثرة الغرق، وانقطاع صيده. {بما}؛ وذلك بسبب ما {كسبتْ أيدي الناس} من الكفر والمعاصي، ولو استقاموا على الطاعة لدفع الله عنهم هذه الآفات. أظهر فيهم ذلك {ليذيقهم بعض الذي عملوا} أي: ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، عن قُنْبل ويعقوب: بنون التكلم. {لعلهم يرجعون} عما هم عليه من المعاصي.
{قل} لكفار قومك {سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلُ}؛ لتُعاينوا ما فعلنا بهم بسبب كفرهم ومعاصيهم؛ لأنه {كان أكثرُهم مشركين}؛ فدمرناهم، وخربنا ديارهم، فانظروا: كيف كان عاقبتهم، لعلكم ترجعون عن غَيكم.
الإشارة: قال القشيري: الإشارة في البَرِ إلى النَّفْسه، وفي البحر إلى القلب، وفسادُ البرّ بأَكْلِ الحرام وارتكاب المحظورات، وفسادُ البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة، مثل سوء العزم، والحسد والحقد، وإرادة الفسوق، وغير ذلك. وعَقْدُ الإصرار على المخالفات من أعظم فساد القلب، كما أنَّ العَزْمَ على الخيرات، قبل فِعْلها، من أعظم الخيرات. ومن جملة الفساد: التأويلاتُ بغير حقٍّ، والانحطاطُ إلى الرُّخَصِ من غير قيام بحقٍ، والإغراق في الدعاوى من غير استحياء. اهـ.
قال الورتجبي: إن الله غلب الإنسانية على الكون؛ طاعةً ومعصية، فإذا رزق الإنسان الطاعة صلح الأكوان ببركتها، وإذا رزق المعصية فسد الحدثان بشؤم معصيته؛ لأن طاعته ومعصيته من تواثير لطفه وقهره، عَلاَ بنعت الاستيلاء على الوجود، فإذا فسادها يؤثر في بَرِّ النفوس وبحار القلوب، ففساد بَرَّ النفوس: فَتْرَتُهَا عن العبودية، وفساد بحر القلب: احتجابه عن مشاهدة أنوارالربوبية. اهـ.
قلت: وقد يقال: ظهر الفساد في بر الشريعة؛ بذهاب حَمَلَتِهَا، ومن يحفظها، ويذب عنها، وفي بحر الحقيقة؛ بقلة صدق من يطلبها، وغربة أهلها، واختفائها حتى اندرست أعلامها، وخفي آثارُها، والبركة لا تنقطع. وذلك بسبب ما كسبت أيدي الناس؛ من إيثار الدنيا على الله؛ ليذيقهم وبال القطيعة، لعلهم يرجعون إليه، إما بملاطفة الإحسان، أو بسلاسل الامتحان.
قال في لطائف المنن: سأل بعضُ العارفين عن أولياء العدد، هل ينقصون؟ فقال: لو نقص منهم واحد؛ ما أرسلت السماء قَطْرَهَا، ولا أنبتت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم، ولا بنقص أمداداهم، ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم، مع وجود بقائهم. فإذا كان أهل الزمان مُعْرضين عن الله، مؤثرين لما سوى الله؛ لا تنجح فيهم الموعظة، ولا تميلُهم التذكرة، لم يكونوا أهلاً لظهور أولياء الله تعالى فيهم، ولذلك قالوا: أولياء لله عرائس ولا يرى العرائسَ المجرمون. اهـ.
قال القشيري: {قل سيروا}؛ بالاعتبار، واطلبوا الحقَّ بنعت الافتكار، وانظروا: كيف كان حال من تقدمكم من الأشكال والأمثال؟ وقيسوا عليها حُكْمَكم في جميع الأحوال، {كان أكثرهم مشركين}: كان أكثرهم عدداً، ولكن أقل في التحقيق؛ وزناً وقَدْراً. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {فأقمْ وجهَكَ} أي: قوّمه وَوَجّهّه {للدين القَيِّم}؛ البليغ في الاستقامة، الذي لا يتأتى فيه عوج ولا خلل. وفيه، من البديع، جناس الاشتقاق.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمتُه تبع، أو: لكل سامع. {من قبل أن يأتي يومٌ}؛ وهو البعث، {لا مَرَدَّ له} أي: لا يقدر أحد على رده، {من الله}: متعلّق بيأتي، اي: من قبل ان يأتي من الله يوم لا يردّه أحد، أو بمرد؛ لأنه مصدر، أي: لا مرد له من جهة الله، بعد أن يجيء؛ لتعلق الإرادة به حينئذٍ. {يومئذ يَصَّدَّعُونَ}؛ يتصدّعون، فأدغم التاء في الصاد.
وفي الصحاح: الصدع: الشق، يقال صدعته فانصدع، أي: انشق. وتصدّع القوم: تفرقوا. اهـ. أي: يفترقون؛ فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أشار إلى غِنَاهُ عنهم، فقال: {من كَفَرَ فعليه كفرُهُ}؛ وبال كفره، لا يحمله عنه غيره. {ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يَمْهَدُون} أي: يسوون لأنفسهم في قبورهم، أو: في الجنة ما يسوي لنفسه الذي يمهد فراشه ويُوطئه؛ لئلا يصيبه في مَضْجَعِهِ ما ينغص عليه مَضْجَعَهُ. وتقديم الظرف في الموضعين؛ للاختصاص، أي: فلا يجاوز عمل أحد لغيره.
ثم علل ما أمر به من التأهب، فقال: {ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصاحات}، أظهر في موضع الإضمار، أي: ليجزيهم، ليدل عى أنه لا ينال هذا الجزاءَ الجميلَ إلا المؤمن، لصلاح عمله. أثابه ذلك {من فضله} أي: بِمَحْضِ تفضله، إذ لا يجب عليه شيء، {إنه لا يُحب الكافرين}، بل يبغضهم ويمقتهم، وفيه إيماء إلى أنه يحب المؤمنين، وهو كذلك، ولا سيما المتوجهين.
الإشارة: أمر الحق تعالى بالتوجه إليه، والتمسك بالطريق التي تُوصل إليه، قبل قيام الساعة؛ لأن هذه الدار هي مزرعة لتلك الدار، فمن سار إليه هنا وعرفه؛ عرفه في الآخرة، ومن قعد هنا مع هواه، حتى مات جاهلاً به، بُعِثَ كذلك، كما هو معلوم. ولا يمكن التوجه والظفر بالطريق الموصلة إليه تعالى إلا بشيخ كامل سلك الطريق وعرفها. ومن رام الوصول بنفسه، أو بعلمه، أو بعقله؛ انقطع لا محالة. قال القشيري: {فأقم وجهك للدين القيّم}: أَخْلِص قصْدَك، وصِدْقَ عَزْمِكَ، بالموافقة للدين القيِّم، بالاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع. ومَنْ لم يتأدب بمَنْ هو إمامُ وقته، ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته، كان خُسْرانُه أتَمَّ من ربْحه، ونقصانُه أَعَمَّ من نفعه. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8